• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاعتدال طريق المسلمين إلى مستقبل آمن

د. خالد عليوي

الاعتدال طريق المسلمين إلى مستقبل آمن

عندما كان العرب يتغنون بقصيدة الشاعر فخري البارودي التي مطلعها (بلاد العرب أوطاني... من الشام لبغدان) لم يكن يدور في أذهانهم إلّا الاعتقاد بأنّ (القومية العربية هي الحل) لما يعانونه من ظلم اجتماعي، وهوان واستبداد سياسي، وتخلف اقتصادي. وعلى هذه المشاعر عزف كلّ القوميين العرب من البعثيين إلى الناصريين إلى القوميين العرب وغيرهم، لكن تطورات الأحداث انتهت إلى قيام أنظمة حاكمة قومية قمعية بامتياز تم فيها عسكرة المجتمعات العربية بصورة تبعث على الإزدراء والسخرية، وانتشرت فيها عقلية المؤامرة والتخوين لرفاق السلاح والمبدأ ولكلّ رافض للعيش ضمن قطيع الحاكم، بل وألحقت هذه الأنظمة بمجتمعاتها وأبناء قوميتها من الدمار والتفتيت وانتهاك الحرمات وبعث روح الإحباط والانهزامية ما لم تكن تحلم به قوى الاستعمار القديم على دناءة أساليبها وبشاعة تخطيطها.

إنّ الهزيمة التي منيت بها تيارات القومية العربية في إيجاد حل ناجع لمشاكل مجتمعاتها أوصلتها إلى نكسة الخامس من حزيران عام 1967 المذلة، التي حركت قوى جديدة حاولت أخذ المبادرة وتسيد المشهد، وهذه القوى معظمها دخل تحت عباءة ما سمي بالصحوة الإسلامية التي رفعت شعار (الإسلام هو الحل)، وقد اكتسبت شرعيتها من خلال موروث الثقافة الإسلامية السائدة، كما عثرت لها على أرضية اجتماعية خصبة ممثلة بجماهير عريضة ناقمة على الوضع القائم، وتبحث عن منقذ ينتشلها من خيبتها وحرمانها ووجعها، ليس بين العرب وحدهم وإنما بين عموم المسلمين.

والملاحظ أنّه لم يكن لرافعي شعار الإسلام هو الحل ثوب مذهبي واحد؛ بل هم ينتمون إلى مذاهب المسلمين على اختلاف مرجعياتها، ويتوزعون على تيارات سياسية مختلفة لها منظريها الخاصين بها، وقد استغرق الصراع بينهم وبين بقايا الأنظمة القومية القمعية والأنظمة التقليدية الاستبدادية وقتاً طويلاً، قبل أن يثمر عن بزوغ أنظمة إسلامية عدة: كنظام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، ونظام طالبان في أفغانستان عام 1996، ونظام الإخوان المسلمين في مصر عام 2012 والذي استمر لسنة واحدة فقط، ونظام الحكم في العراق بعد عام 2003 الذي تسيدت المشهد فيه الأحزاب الإسلامية (الشيعية والسنية)، وحكم حزب العدالة والتنمية الإخواني في تركيا منذ عام 2002، ويمكن أن ندرج حكم المؤتمر الوطني بقيادة عمر البشير للسودان منذ عام 1989 ضمن هذه القائمة؛ لأنّه انبثق من رحم الحركة الإسلامية في هذا البلد، ولا نستثني هنا المملكة العربية السعودية التي لها خصوصيتها في كونها قامت منذ لحظة ميلادها على رؤية إسلامية معينة، ونضيف إلى ذلك التنظيمات الإسلامية الطامحة بالوصول إلى السلطة وحكم مجتمعاتها كتنظيم القاعدة والتنظيمات المنبثقة منه (داعش، وبوكو حرام، والشباب الصومالي، والنصرة، وغيرهم).

هذه التجارب البارزة والمؤثرة للدول والتنظيمات التي رفعت شعار الإسلام هو الحل تدفعنا بعد تحليلها الموضوعي إلى الحكم عليها بالفشل –مع اختلاف المستوى بين تجربة وأخرى- في حل مشاكل مجتمعاتها؛ لكونها انتجت أنظمة حكم تدور شكوك مبررة حول ديمقراطية وكفاءة ونزاهة بعضها، فيما ينخر الفساد والاستبداد والظلم وعبودية الحاكم (ولي الأمر الزائف) وسوء توزيع السلطة والثروة بعضها الآخر، أما تطرف وظلامية وسادية التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود تحت شعار حكم الإسلام فلم تعد تخفى على أحد في جميع أرجاء المعمورة.

لقد فشل دعاة الإسلام هو الحل في تحقيق حلم مجتمعاتهم، كما فشل قبلهم دعاة القومية العربية، وعندما نمعن النظر في الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل الواضح للتيارات الرئيسة التي حركت بعنف عالمنا الإسلامي معظم القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، سنجدها مختصرة في كلمة واحدة هي (التطرف)، نعم لقد اختلفت المنطلقات النظرية، ولكن تشابهت الممارسات، فعقلية التطرف اجهضت أحلام العلمانيين القوميين وغيرهم، كما أجهضت أحلام المتدينين على اختلاف مشاربهم، والسلوك المتطرف كان دائما تعززه وترسخه ثقافة ساندة، وفكر جامد عاجز عن استيعاب متغيرات الزمان والمكان وما تفرضه من استحقاقات للوصول إلى بناء مجتمع سعيد محفوظ الكرامة والحقوق.

إنّ سيادة قيم الاستئثار، والتآمر، والتسلط، والطمع، ورفض الآخر إلى حد تكفيره وتفسيقه وغيرها من القيم المنحرفة ما هي إلّا نتاج العقلية المتطرفة أحادية التفكير، وضيقة الأفق. وفي ظل هذه العقلية من العقم الحديث عن حلول علمانية أو حلول دينية لمشاكل مجتمعاتنا المبتلاة؛ لأنّ مصير هذه الحلول هو الفشل، إذ لن ينجح العلمانيون في إقامة دولة مدنية ديمقراطية كما يزعمون، ولن ينجح الإسلاميون في إقامة دولة دينية عادلة، بل ستكون النتيجة دائماً مزيداً من التردي في مختلف مجالات الحكم والإدارة مع استمرار الانحدار الثقافي والحضاري بعيداً عن قمم التميز والنجاح.

وهذه الحقيقة الناصعة البرهان تتطلب من العقل المسلم -بصرف النظر عن منطلقه الفكري- أن يعيد النظر في طريقة تفكيره ليصل إلى نتيجة حاسمة هي نبذ منهج التطرف –فكراً وسلوكاً-والإيمان بمنهج الاعتدال كخيار بديل وحيد للنجاح في تحقيق الأهداف وبلوغ السعادة، وجعل المنهج الأخير ميزاناً تحدد على مقتضاه صحّة النظريات، وصواب تطبيقها في الميدان، فما وافق منهج الاعتدال وسار معه يتم تبنيه، وما خالفه وابتعد عنه يتم طرحه والبراءة منه.

إنّ إدراك خطر التطرف والحاجة إلى منهج الاعتدال في حياة المسلمين الحاضرة دفعت المرجعية الدينية الشيعية الرئيسة في النجف الأشرف ومن خلال ممثلها في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة يوم التاسع من شهر أيلول – سبتمبر الجاري إلى القول: " وإنّنا – كمسلمين- بحاجة اليوم إلى الرجوع والإنابة الحقيقية والصادقة إلى الله تعالى وشرعه القويم ومنهجه المحمّدي الأصيل، وذلك باتباع شرعته في الرحمة والأخوة واحترام الآخر ونبذ التعصب وتجنب الصراعات غير المبررة لا شرعاً ولا عقلاً ولا أخلاقاً. وقبول كلّ منا بالآخر والعمل معه سوية في الخيرات حيث المشتركات كثيرة وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا لولا أنّ الهوى والتعصب صار هو الغالب والسائد حتى بات العالم الإسلامي موطن الصراعات الدموية والاحتراب المقيت".

هذا الشعور بالخطر الداهم الناجم عن تسيد منهج التطرف، والهاوية التي يقود مجتمعاتنا إليها يتطلب استنفار جميع الطاقات والجهود من أجل إزاحته من الوجود، فهو كما يهدد مجتمعاتنا على العموم يهدد أسرنا ومَن نحب فرداً فرداً، ولا يمكن هزيمة هذا المنهج المنحرف إلّا بمنهج يشكل ضده النوعي والعقائدي ألا وهو منهج الاعتدال بكلّ ما للمنهج الأخير من خيرية وسمو وفضيلة وحب للناس وللحياة والطبيعة، وتحقيق ذلك يقتضي:

1- بذل جهد أكبر من المرجعيات الدينية لعموم المسلمين-على اختلاف مذاهبهم- من أجل ترسيخ منهج الاعتدال في الحياة الإسلامية الحاضرة، من خلال بيان أُسسه وأركانه الشرعية، وإنّ أية تحديات تواجهها هذه المرجعيات لا تعفيها من تحمل مسؤوليتها في هذا المجال، ومن المفيد أن تحفز مؤسساتها ودعاتها ومبلغيها للقيام بدورهم في إنجاح هذا المسعى.

2- إنّ المؤسسات الأكاديمية والتربوية والتعليمية بحاجة إلى أن تكون لها برامج شاملة تهدف إلى تعزيز سلوكيات التعايش ونبذ الكراهية وشيوع ثقافة الحوار وتقبل الآخر، فهذه المؤسسات لا تمنح شهادات دراسية فقط، بل تزود مرتاديها بثقافة عامة تسمح بالتعايش والتنافس الشريف بين الجميع، واختلاف العقائد لا ينبغي أن يكون سبباً لتمزيق المجتمع وتدمير نسيج وحدته الإنسانية، وهذا يتطلب وجود إدارات عليا واعية بهذه الحقيقة، وعلى مستوى المسؤولية لاعتماد هذه الأهداف في سياساتها العامة.

3- الإعلام سلاح ذو حدين، فإمّا أن يستثمر لبناء المجتمعات وتحقيق وحدتها وتماسكها، وإما أن يفعل العكس، وهو في بلاد المسلمين غالباً ما كان يلعب دوراً سلبياً على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العلاقات الدولية، فهو إعلام الحاكم أو الحزب أو الطائفة... وهلم جراً، كما هو في معظمه إعلام موجه غير مهني مشحون بالعداء والكراهية اتجاه الآخر باختصار هو إعلام حرب وصراع أكثر مما هو إعلام تعايش وسلام. هذا الدور السلبي للإعلام بحاجة إلى مراجعة لتكون رسالته وأدواته تصب في مجرى منهج الاعتدال لا منهج التطرف والإرهاب.

4- المجتمع الواعي الإنساني أساس أي نهضة حضارية، ولا يمكن لمجتمعات مسكونة بعقد الماضي، وتسودها ثقافة العبودية والخوف، ويحكمها الفقر والجهل أن تكسب سباقها الحضاري مع غيرها من الأمم. إنّ النخب في مجتمعاتنا-سياسية وأكاديمية واجتماعية واقتصادية ونقابية ومدنية ودينية-مطالبة بالقيام بدورها في تعزيز وعي هذه المجتمعات سواء في تعايشها مع بعضها البعض أو في المطالبة بحقوقها والوفاء بواجباتها.

5- وجود نظام الحكم الصالح والرشيد يعني وجود القيادة الكفوءة والمسؤولة والقادرة على بلوغ القمة، وبدون السعي لإيجاد أنظمة حكم صالحة ستكون سلطات الدولة عامل عرقلة وتعويق لأي بناء ديمقراطي يترعرع فيه منهج الاعتدال ليعطي ثماره. إذاً من المفيد أن يكون العمل على إيجاد هذه الأنظمة جزء أساس من أي حراك اجتماعي-نخبوي هادف إلى الوصول إلى حكم يحمي كرامة الفرد والمجتمع.

6- إسقاط القيم والتقاليد والأعراف البالية وشن حرب واعية عليها مدخل مهم لإحلال قيم وتقاليد وأعراف جديدة محلها، والمنظومة القيمية السائدة في بلاد المسلمين بحاجة إلى غربلة شاملة تحدد ما هو صالح منها وما هو طالح، فلكلّ منهج اجتماعي منظومته القيمية الخاصة، وكما إنّ لمنهج التطرف منظومته القيمية التي أوجدته في حياة المجتمعات المسلمة، فإنّ ترسيخ منهج الاعتدال بحاجة إلى منظومته القيمية المعززة والتي لا تسود إلّا بإزاحة كلّ ما يناقضها. هذه المهمة خطيرة جداً وتتطلب أن يبذل فيها علماء الاجتماع خصوصاً والعلوم الإنسانية عموماً دوراً مهماً لتحديد الأولويات والآليات المناسبة للتغيير.

ارسال التعليق

Top